- السيرة / ٠3سيرة الصحابة
- /
- ٠2رجال حول الرسول
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
نبذة قصيرة عن حياة أم سلمة :
أيها الأخوة الأكارم, نحن مع أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، وصحابي اليوم، بل وصحابية اليوم السيدة أم سلمة وهي زوج النبي عليه الصلاة والسلام، ولقصتها عِبَر كثيرة، ودلالات خطيرة، وحقائق دقيقة .
فأم سلمة, أبوها سيد من سادات مخزوم المرموقين، وجواد من أجواد العرب المعدودين ، حتى إن أباها كان يسمى بين العرب زاد الراكب، لكثرة عطائه، وشدة كرمه، وأمّا زوجها فعبد الله بن عبد الأسد أحد السابقين إلى الإسلام، إذ لم يسلم قبله إلا أبو بكر الصديق ونفر قليلٌ لا يبلغون أصابع اليدين عدداً، هذه المرأة الفاضلة أسلمت مع زوجها فكانت هي الأخرى من السابقات إلى الإسلام، وهذه وقفة قصيرة لا بد منها .
المرأة مساوية للرجل في الإسلام من حيث التكليف والتشريف :
أيها الأخوة, هذا كلام دقيق، المرأة كالرجل تماماً، هذا حكم الإسلام، هذا حكم الدين، المرأة كالرجل تماماً، في التكليف، وفي التشريف، مكلفة بالإسلام كالرجل، مكلفة بالإيمان كالرجل ، مكلفة بالفرائض كالرجل، مشرِّفة عند الله كالرجل، والأدلة على هذه الحقيقة في القرآن والسنة كثيرة جداً, قال تعالى:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾
﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾
يا أيها الإخوة الأكارم, من سعادة المرء في الدنيا أن تكون زوجته صالحة، أن تكون زوجته مؤمنة كإيمانه، سابقة إلى الإسلام كسبقه، محبة لله كحبه، طائعة لله كطاعته، عبادة كعبادته ، لذلك أي رجل يهمل تعليم زوجته حقائق الدين وآيات القرآن الكريم يدفع الثمن باهظًا من سعادته الزوجية، وليس أشقى في الحياة من أن تكون أنت في واد وزوجتك في واد آخر، فأجمل البيوت الإسلامية ما كان فيها توافق بين الزوجين، لأن الزوجة من أجل أن تقضي منها الوطر، فهذا شيء يخف بريقه مع الأيام، لذلك فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ))
لأنها تسعد زوجها، أما ذات الدنيا تمتعه ولا أقول تسعده، تمتعه إلى حين، فأسعد المؤمنين من كانت زوجته على شاكلته، عليه أن يجتهد في ترسيخ الإيمان في قلبها، القضية بحسب الطلب، ربنا عز وجل قال:
﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾
وأصلحنا له زوجه، فالمسلم إن لم يكن متزوجاً، عليه بذات الديـن، وإن كان متزوجاً عليه بإصلاح زوجته، بالإحسان تارة، بالتوعية تارة، بالتعليم تارة، بالتكريم تارة، بوسائل كثيرة جداً يراها الزوج مناسبة .
هجرتها مع زوجها إلى الحبشة :
ما إن شاع إسلام أم سلمة وزوجها حتى هاجت قريش وماجت وجعلت تصب عليهما من نكالها ما يزلزل الصخور، فلم يضعفا، ولم يَهِنَا، ولم يترددا .
يا أخوة الإيمان، الصحابة الكرام دفعوا ثمن هذا الإسلام باهظاً، حتى وصل إلينا، دفعوا من راحتهم في الدنيا، دفعوا من طمأنينتهم، دفعوا من مستوى معيشتهم، دفعوا من حبهم لأوطانهم ، كل هذا ضحوا به من أجل أن ينتشر الإسلام، ولما اشتد عليهما الأذى، وأذن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، كان عبد الله وأم سلمة من طليعة المهاجرين، طبعاً أم سلمة من علية القوم، حينما مضت مع زوجها إلى الحبشة خلفت وراءها بيتًا باذخاً، وعزاً شامخاً ، ونسبا عريقا، محتسبة ذلك كله عند الله، مستقلة ذلك في جنب الله .
المسلم إن لم يبذل من جهده، من ماله، من راحته أحياناً، من علاقاته الاجتماعية في سبيل الله، فلن يصل إلى ما يرضيه .
لقيت أم سلمة وزوجها من الملك النجاشي الرحمة والإكرام، نضر الله مثواه في الجنة، عده بعض كتاب السيرة من التابعين، لأنه كان أفضل مَن وَفَدَ إليه أصحاب النبي .
ما سبب عودة أم سلمة مع زوجها إلى مكة ؟
تتابعت الأخبار على المهاجرين إلى أرض الحبشة، من هذه الأخبار أن المسلمين قد كثر عددهم وأن حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب قد أسلما
وبإسلام هذين الرجلين الكبيرين اشتد أزر المسلمين، وقويت شوكتهم, الأخبار التي جاءت إلى المهاجرين في الحبشة كانت طيبة جداً، لذلك عادت أم سلمة وزوجها إلى مكة، بعد أن تلقيا أخباراً طيبة عن أن المسلمين قويت شوكتهم، واشتد عودهم بإسلام عمر وحمزة، وأن المسلمين كثر عددهم، لكن سرعان ما اكتشفت أم سلمة وزوجها أنّ هذه الأخبار كان مبالغاً فيها، وأن الوثبة التي وثبها المسلمون بعد إسلام عمر وحمزة قوبلت من قريشٍ بهجمة أكبر .
أحيانًا نفرح إذ يقولون: هناك صحوة إسلامية، لكن مع الصحوة في هجمة، أبداً الهجمة تكافئ الصحوة، هذه معركة أبدية، معركة الحق والباطل، معركة الخير والشر، معركة الهدى والضلال، معركة العقل مع الشهوة، معركة القيم مع الحاجات، هذه معركة أبدية، فأي مشكلة تواجهها من هذا القبيل فهذه المشكلة تندرج مع هذه المعركة الأزلية بين الحق والباطل .
إليكم قصة أم سلمة حينما هاجرت مع زوجها إلى المدينة والأحداث التي جرت معها :
لذلك بالغ المشركون في تعذيب المسلمين، وترويعهم، فقد أذاقوهم من بأسهم ما لا عهد لهم به، عند ذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فعزمت أم سلمة وزوجها على أن يكونا أول المهاجرين فراراً بدينهما من أذى قريش، وكما هي العادة ندع الحديث الآن لأم سلمة تحدثنا عن هجرتها، والقصة مؤثرة جداً، وفيها استنباطات رائعة، وحقائق دامغة .
تقول أم سلمة:
((لما عزم أبو سلمة على الخروج إلى المدينة أعد لي بعيراً ثم حملني عليه، وجعل طفلنا سلمة في حجري، ومضى يقود بنا البعير وهو لا يلوي على شيء .
-ذات مرة أحد لصوص الصحراء، لصوص الخيل، وقف على الرمل الذي يكاد يحترق من شدة أشعة الشمس، فمر به فارس يمتطي فرسه، هذا الفارس رق لهذا الإنسان البائس الذي ينتعل رمال الصحراء المحرقة، فدعاه إلى ركوب الفرس معه، وما إن ركب هذا اللص خلف صاحب الفرس، حتى دفعه إلى الأرض، وعدا بالفرس لا يلوي على شيء، ذكرني بهذه القصة كلمة لا يلوي على شيء، فناداه صاحب الفرس، وقال: يا هذا, وهبت لك الفرس ولن أَسْأل عنها بعد اليوم، ولكن إياك أن يشيع هذا الخبر في الصحراء، فإن شاع هذا الخبر تذهب المروءة من الصحراء، وبذهاب المروءة يذهب أجمل ما فيها .
إذا أقرضَ إنسان إنسانًا مبلغًا، وهذا المدين أكله على الدائن، فأنا لا أتمنى أن يشيع هذا الخبر بين الناس، وإذا أحسن إنسان إلى إنسان، والذي أُحْسِنَ إليه أساء إساءة بالغة، فلا أتمنى أن تشيع بين الناس، لأنه كلما شاع بين الناس مثل هذه الإساءات، أحجم الناس عن فعل الخير، وبالمناسبة في بلدنا أكثر من سبعمئة ألف شقة فارغة، هل هي أزمة سكن أم إسكان؟ أزمة إسكان ، وليس هناك أزمة سكن لماذا؟ لأن بعض الحوادث أو عشرات الحوادث زعزعت ثقة الإنسان بمَن يريد سكنًا للإيجار، فنشأ ما يسمى بأزمة الإسكان، لا أزمة السكن، هذا الذي ذكره الله عز وجل:
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾
(ويمنعون الماعــون) إذا أسأت إلى المحسن فقد منعت الماعون، كلكم يذكر قبل حين أنه كان الإنسان إذا رأى مصاباً في حادث فلا أحد يسعفه إلى المستشفى، لماذا؟ لأن الذي يسعفه إلى المستشفى سوف يعتقل إلى أن تُكتشف حقيقة هذا الحادث، فالإنسان إذا قام بإسعاف جريحٍ فإنه يبقى في السجن أيامًا عديدة حتى يكتشف أولو الأمر الحقيقة، هي مشكلة كبيرة، لذلك صار الإنسان يموت نزيفاً ولا أحد يسعفه إلى المستشفى، إلى أن صدرت تعليمات جديدة بأن أحداً لن يسأل المسعف أبداً، وإذا أسعفه وأوصله إلى المستشفى، فالذي كان يضيِّق على هذا المسعف فقد مَنَعَ الماعون، ومَنَعَ الخير، فالمحسن إذا أسأت إليه أسأت إلى المجتمع بأسره لا إلى شخصه- .
تقول هذه الصحابية الجليلة: وقبل أن نفصل عن مكة, أي نبتعد عن مكة، رآنا رجال من قومي بني مخزوم فتصدوا لنا، وقالوا لأبي سلمة: إن كنت قد غلبتنا على نفسك، فما بال امرأتك هذه وهي ابنتنا فعلامَ نتركك تأخذها منا وتسير بها في البلاد، ثم وثبوا عليه وانتزعوني منه انتزاعاً، فرقوا بين عبد الله وبين زوجته أم سلمة، وما إن رآهم قوم زوجي بنو عبد أسد يأخذونني أنا وطفلي حتى غضبوا أشد الغضب, وقالوا: لا والله لا نترك الولد عند صاحبتكم بعد أن انتزعتموها من صاحبنا انتزاعاً فهو ابننا ونحن أولى به, ثم طفقوا يتجاذبون طفلي سلمة بينهم على مشهد مني حتى خلعوا يده، وأخذوه، هذه مأساة، وفي لحظات وجدت نفسي ممزقة الشمل وحيدة فريدة فزوجي اتجه إلى المدينة فراراً بدينه ونفسه، وولدي اختطفه بنو عبد أسد من بين يدي محطماً مهيضاً, يعني مكسور الجناح، أمَّا أنا فقد استولي عليَّ قومي بنو مخزوم وجعلوني عندهم، -هذه من المآسي التي عاناها أصحاب رسول الله .
وهذا سؤال, لو أنّ رجلاً سأل نفسه: نحن ما عملنا لرفعة الإسلام؟ والله يا أخي ما حضرتُ الدرسَ، المواصلات صعبة، لكنها الآن حُلَّتْ مشكلتها، وكثرتْ سيارات النقل المتوسطة ، فهل حصل لأحدٍ كما حصل لهذه المرأة الصحابية؟ .
رُوِيَ سيدنا صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه أنّ امرأة أسيرة فقدتْ وليدها، فلما شكتْ إليه ذلك، وقف ولم يجلس حتى أعادوا لها وليدها، دخلت إلى خيمة تنتظر مجيء وليدها، فإذا زوجها بالخيمة، فلما عرفته وعرفها بعد طول فراق، وهما من النصارى، ويبدو أنها عانقته أو عانقها، فيروي كتاب التاريخ أن سيدنا صلاح الدين الأيوبي غض بصره وأكبر هذه الرحمة التي وضعها الله بين الزوجين، فلما حدثته عن معاملة المسلمين، وكان زوجها فارساً من فرسان أوربا المشاهير أسلم, وعينه صلاح الدين الأيوبي أحد قادته الكبار، ما هذه المعاملة؟ يعني المسلمون يتحلَّون بأعلى درجات الكمال- .
قالت: ومنذ ذلك اليوم جعلت أخرج كل غداة إلى الأبطح، فاجلس في المكان الذي شهد مأساتي، وأستعيد صورة اللحظات التي حيل خلالها بيني وبين ولدي وزوجي، وأظل أبكي حتى يخيم عليَّ الليل .
-إذاً: الذي أودعه الله في قلب الزوجة من محبة لزوجها، والذي أودعه الله في قلب الزوج من محبة لزوجته، ومن محبة الزوجين لابنهما، ومن محبة الابن لوالديه، فهذه رحمة من الله سبحانه أودعها الله في قلوبَ عباده .
لذلك فالنبي الكريم, قال: ليس منا من فرق بين والدة وولدها، وينطبق هذا القولُ على كل إنسان يفرِّق بين أم وولدها، حتى لو كانا من البهائم، فالمفرِّق ملعون، لأن الذي أودعه الله في القلوب لا تمحوه الأحداث أبداً، لذلك قال تعالى:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾
وبقيت على ذلك سنة، أو قريباً من السنة، إلى أن مر بي رجل من بني عمي فرَقَّ لحالي، ورحمني، وقال لبني قومي: ألا تطلقون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها، وبينها وبين ولدها ، وما زال بهم يستلين قلوبهم، ويستدر عطفهم, حتى قالوا: الْحقي بزوجك إن شئت، ولكن كيف ألحق بزوجي وهو في المدينة، وأترك ولدي وفلذة كبدي في مكة عند بني عبد الأسد؟ كيف يمكن لي أن تهدأ هذه اللوعة، أو ترقأَ عَبْرة، وأنا في دار الهجرة، وولدي الصغير في مكة لا أعرف عنه شيئاً؟))
فقلب الأم، وقلب الأب، يؤكد عظمة الله عز وجل، قلب الأم يؤكد رحمة الله عز وجل.
عودة ابنها إليها ولحاقها بقوافل المهاجرت إلى المدينة :
تقول أمُّ سلمة:
((ورأى بعض الناس ما أعالج من أحزاني وأشجاني فرقت قلوبهم لحالي، وكلموا بني عبد الأسد في شأني، واستعطفوهم عليَّ، فردوا لي ولدي سلمة، قالت: فلم أشأ أن أتريث في مكة حتى أجد من أسافر معه، لشدة شوقها للمدينة دار الهجرة، ولزوجها والد ابنها, فقد كنت أخشى أن يحدث ما ليس بالحسبان، فيعوقني عن اللحاق بزوجي عائق، لذلك بادرت فأعددتُ بعيري، ووضعت ولدي في حجري، وخرجتُ متوجهة نحو المدينة أريد زوجي، وما معي أحد من خلق الله))
امرأة تركب ناقة وفي حجرها ولدها وتُيَمِّم شطر المدينة، التي تبعد عن مكة 450 كيلومترًا، تحتاج إلى أن تقطعها الآن في سيارة مكيفة حديثة تسير بسرعة 180- 210، في طريق سريعة عريضة مزفَّتة، تحتاج إلى خمس ساعات سير، أو ثلاث ساعات، وكان أصحاب النبي يقطعون هذه الطريق في اثني عشر يوماً .
بربكم أرجو أن توازنوا بين ما نحن فيه, وبين ما كان أصحاب رسول الله فيه، بل الأغرب من ذلك وازنوا بين ما نحن فيه، وبين ما كان فيه أهل الجاهلية .
من هو الصحابي الذي رافقها في طريق هجرتها قبل إسلامه ؟
قالت:
((وما إن بلغت التنعيم, التنعيم الآن منطقة فيها مسجد السيدة عائشة، مكان الإحرام للعمرة، وما إن بلغت التنعيم حتى لقيت عثمان ابن طلحة, فقال: إلى أين يا بنت زاد الراكب؟
قلت: أريد زوجي في المدينة .
قال: أو ما معك أحد؟ .
قلت: لا والله إلا الله، ثم بني هذا .
قال: واللهِ لا أتركك أبداً حتى تبلغي المدينة .
فسار معها اثني عشر يوماً، ثم أخذ بخطام بعيري وانطلق يهوي بي))
إليكم حديثها عن صفات هذا الصحابي الذي لم يدخل في الإسلام بعد :
اسمعوا وصف السيدة أم سلمة لهذا الرجل الذي لم يسلم بعد، هذا مشرك, قالت:
((واللهِ ما صحبت رجلاً من العرب قط أكرم منه ولا أشرف، كان إذا بلغ منزلاً من المنازل ينيخ بعيري ثم يستأخر عني، حتى إذا نزلت عن ظهره، واستويت على الأرض، دنا إلى البعير، وحط عنه رحله ، واقتاده إلى شجرة، وقيده فيها، ثم يتنحى عني بعيداً إلى شجرة أخرى فيضطجع فيها فإذا حان الرواح قام إلى البعير، فأعدَّه، وقدَّمه إلي، ثم يستأخر عني, ويقول: أركبي فإذا ركبت واستويت على البعير، أتى وأخذ بخطامه وقاده .
-وازنوا بين هذا الجاهلي وبين شباب المسلمين اليوم، يعني إذا امرأة في مكان تعثرت، فالمسلم الشهم يغض بصره فوراً، أما الدنيء فإنه ينظر إليها، فهذا الرجل قبل أن يسلم، هكذا تصرف كما رأيتم, وقرأتم عن تصرفاته قبل أسطر- .
قالت: وما زال يصنع بي مثل ذلك كل يوم حتى بلغنا المدينة، فلما نظر إلى قرية بقباء لبني عمرو بن عوف, قال: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعاً -وسار اثني عشر يومًا، حتى أوصلها سالمةً، فهو شهم حقًّا، وصاحب مروءة، فهذه أخلاق جاهلية أمتنا .
ونضرب مثلا باللغة التجارية, فنقول: إذا قبض رجلٌ مالاً من المشتري، فكتب في سجلاَّته دفعة أولى، معنى ذلك أنه ستكون هناك دفعة ثانية، هل هذا الكلام صحيح؟ نعم، فكل شيء موثَّق، ورغم ذلك نجد التحايلَ كثيرًا، ربنا عز وجل قال:
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾
ولا تبرجــن تبرج الجاهلية الأولى، فما المعنى؟ كانت جاهلية أشد ممّا أتى بعدها، هي جاهلية جهلاء، يُكذَّب الصادق، ويُصدَّق الكاذب، يؤتمن الخائن، ويخون الأمين، ويوسَّد الأمر إلى غير أهله، ويصبح الولد غيظاً، والمطر قيظاً، ويفيض اللئام فيضاً، يغيظ الكرام غيظاً، يؤمر بالمنكر، ويُنهى عن المعروف، وتركب ذواتُ الفروج السروج، كما ورد في بعض الأحاديث، ويعق الابنُ أباه، ويبرُّ صديقه .
وفي أيامنا نجد شبابًا مع والده ووالدته، أشرس ما يكون، ومع أصدقائه مثل الجمل الذلول، سهل المأخذ، ليّن الجانب، لطيف، وديع .
النبي الكريم أخبر يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغير، أحاديث كثيرة لا أذكرها الآن، لذلك أُلِّفتْ كتب كثيرة تحت عنوان: جاهلية القرن العشرين، هناك جاهلية جهلاء، والملاحَظ الآن في العالَم جاهلية ما بعدها جاهلية، لا قيم، ولا مبادئ، ولا أخلاق، ولا رحمة، بل قسوة ما بعدها قسوة، ووحشية ما بعدها وحشية، تفاوت ما بعده تفاوت، قهرٌ ما بعده قهر، لذلك كلمة الأولى في قوله تعالى لها معانٍ كثيرة، ولا تبرجن تبـرج الجاهلية الأولى، فمَن يصدِّق أنّ في بعض البلاد الغربية 30% من حالات الزنا زنا محارم، الأخت مع أخيها، والأب مع ابنته، إلى أن أصبح هذا شبه شائع، ولا تبتعدوا كثيراً، هذا الذي نجح في الانتخابات الرئاسية في أمريكا، لماذا نجح؟ لأنه وعَد فيما وعدهم بإباحة الإجهاض، وأما الشاذون جنسياً فهؤلاء سمح لهم بدخول الجيش، وكأن هذا ليس شذوذاً، بل هو مقبول اجتماعياً، هذه هي جاهلية القرن العشرين- .
اجتمع الشمل بعد طول افتراق، وقرت عين أم سلمة بزوجها, وسعد أبو سلمة بصاحبته وولده، ثم تسارعتْ الأحداث ومضتْ الأيامُ سراعاً كلمح البصر))
المصيبة المؤلمة التي قدر لها في بيت أم سلمة :
فهذه بدر يشهدها أبو سلمة ويعود منها مع المسلمين، وقد انتصروا نصراً مؤزراً، وهذه أُحُد يخوض غمارها بعد بدرٍ، ويبلي فيها أحسن البلاء وأكرمه، لكنه يخرج منها وقد جرح جرحاً بليغاً، فما زال يعالجه حتى بدا له أنه قد اندملتْ، لكن الجرح قد اندمل على فساد، فما لبث أن انتكأتْ، ولزم أبو سلمة الفراش، وفيما كان أبو سلمة يعالَج من جرحه، قال لزوجته:
((يا أم سلمة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول: لا يصيب أحد مصيبة فيسترجع عند ذلك فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه، اللهم اخلفني خيراً منها إلا أعطاه الله عز وجل))
هذا كلام النبي الذي لا ينطق عن الهوى .
قالت:
((ظل أبو سلمة على الفراش مريضًا أياماً، وفي ذات صباحٍ جاءه النبي صلى الله عليه وسلم ليعوده، فلم يكد ينتهي من زيارته ويجاوز باب داره حتى فارق أبو سلمة الحياة، فرجع النبيّ وأغمض عينيه بيديه الشريفتين، ورفع طرفه إلى السماء, وقال: اللهم أغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المقربين، واخلفه في عقبه من الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، -هذا دعاء النبي لأبي سلمة, وقد توفاه الله عز وجل، وأفسح له في قبره، ونوِّرْ له فيه- .
أمّا أمُّ سلمة فتذكرت ما رواه لها أبو سلمة عن رسول الله, فقالت: اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه, -هكذا يكون المؤمن، لكنها لشدة إعجابها بأبي سلمة، ولشدة حبها له، ولأنها تعتقد أن أحداً لن يكون خيراً منه كزوج لها، لمّا وصلت لقول النبي: اللهم اخلفني خيراً منها، ما استساغت نفسُها أنْ تدعوَ بهذا الدعاء، -لم تطب نفسها أن تقول: اللهم اخلفني خيراً منها- لأنها كانت تقول: ومن عساه أن يكون خيراً من أبي سلمة،-ليس معقولاً، ويبدو أن زوجها كان في أعلى درجة من المروءة، والشهامة، والكرم، والأخوة، والقوة، والمنعة، بعضُ الأزواج ملء السمع والبصر- فحزن المسلمون لمصاب أم سلمة كما لم يحزنوا لمصاب من قبل، وأطلقوا عليها اسمَ أيِّم العرب، إذْ لم يكن لها في المدينة أحدٌ من ذويها غير صِبْية صغار، وشعر المهاجرون والأنصار معاً بحق أم سلمة عليهم))
الحظ السعيد الذي نالته أم سلمة بزواجها من رسول الله :
هناك زواج في الإسلام لا يقصد منه المتعة إطلاقاً، زواج شهامة، زواج مروءة، حتى تقدم منها أبو بكر الصديق يخطبها لنفسه، فلا قريب لها، ولا معيل، وأولادها صغار، ولا أحد يدخل عليها، فأبت أن تستجيب له، ورفضت، ثم تقدم منها عمر بن الخطاب، فردَّته كما ردت صاحبه .
وبالمناسبة يقول عليه الصلاة والسلام:
((أول من يمسك بحلق الجنة أنا، فإذا امرأة تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي، قلت: من هذه يا جبريل؟ قال: هذه امرأة مات زوجها، وترك لها أولادًا، فأبت الزواج من أجلهم))
أنا أعتقد أن أم سلمة هذه الصحابية الجليلة لم ترفض طلبَ أبي بكر رضي الله عنه، ولا طلب عمر رضي الله عنه كِبَراً، ولكن هناك أسباب، سنراها بعد قليل، ثم تقدم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت له:
((يا رسول الله, إن فيَّ خلالاً ثلاثًا، فأنا امرأة شديدة الغيرة، فأخاف أن ترى مني شيئاً يغضبك فيعذبني الله، وأنت رسوله، وأنا امرأة قد دخلت في السن، أيْ كبيرة، لا أصلح للزواج، وأنا امرأة ذات عيال، وعندي أولاد، قال: أمَّا ما ذكرت مِن غيرتك فإني أدعو الله عز وجل أن يذهبها عنك، -فهي مرض، والغيرة لها حد مقبول، وبوضعها المعتدل ضرورية جداً، فإذا شعر الزوج أن زوجته تغار عليه، وتحرص على أن يكون لها وحدها، وتحرص على رضاه ، فهذه صفة ضرورية أودعها الله في النساء، لكن كل صفة أودعها الله في النساء والرجال لها حد طبيعي .
الغيرة أيها الأخوة، في أحجامها الطبيعية ضرورية، لكن أحياناً تتفاقم عند امرأة ما، وتزيد عن حدها المعقول، فتنقلب إلى مرض، يعني امرأة تشك في زوجها الذي هو في أعلى درجات الاستقامة، فهي مريضة إذاً، تغار عليه أن يتصل بالهاتف، تغار عليه أن يتأخر بالمجيء إلى البيت، تظن به الظنون، هذه امرأة تحتاج إلى معالجة-.
النبي عليه الصلاة والسلام, قال: أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله عز وجل أن يذهبها عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك, وأمّا ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي، ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم سلمة))
أليس رسول الله خيراً من أبي سلمة؟ اخلفني خيراً منها، فاستجاب الله دعاءها، واخلفها خيرًا من أبي سلمة, ومنذ ذلك اليوم لن تبقى أم سلمة أماً لسلمة وحده، وإنما غدتْ أمًّا لجميع المؤمنين .
ما هي الاستنباطات التي يمكن أن نستخرجها من قصة أم سلمة ؟
1- أن يكون هدف المرء في الحياة مرضاة الله عز وجل :
وبعد, فإني أسألكم بعض الأسئلة، وأريد استنباطات من هذه القصة، استنباطات تفيدنا في حياتنا اليومية، أحداث القصة يعنينا منها الحقائق، العبر، المواعظ، التجارب .
أن يكون اختياره أولاً مرضاة الله عز وجل، أبو سلمة ترك زوجته وولده وفر إلى الله ورسوله، فر بدينه إلى الله ورسوله، والله عز وجل تولى أمره، أعاد إليه زوجته وولده، وأكرمه بصحبة النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً: المقولة التي تعرفونها، هم في مساجدهم والله في حوائجهم .
استنباط آخر، أنت رجل، وبين الناس إنسان عفيف، وإنسان دنيء، هذا الذي ينظر إلى امرأة لا تحل له، فهذه ليست له، ولذلك غض البصر يكسب الإنسان شرفاً، يكسب الإنسان مروءة ، وأجمل صفة بالشاب العفة، تعلمون جميعاً أن العدل حسن لكن في الأمراء أحسن، والسخاء حسن لكن في الأغنياء أحسن، والتوبة حسن لكن في الشباب أحسن، والصبر حسن لكن في الفقراء أحسن، والحياء حسن لكن في النساء أحسن، والورع حسن لكن في العلماء أحسن, وما ترك عبد شيئاً لله إلا عَوَّضَه الله خيراً منه، هذه واحدة .
2- لكل محنة منحة :
ثانياً: ما أصاب أحداً مصيبة, فقال: حسبي الله ونعم الوكيل إلا عوضه الله خيرًا منها، لم تصدِّق أمُّ سلمة أن زوجها أبا سلمة ملء السمع والبصر
زوج لا كالأزواج، رجل لا كالرجال، فكيف يعوضها الله خيراً منه؟ لقد كان الزوجُ الآخر النبي عليه الصلاة والسلام، وهو خير من أبي سلمة .
أيضاً استنباط آخر، إن مع العسر يسرا، وكل مصيبة في ثناياها بذور حلها، لذلك قالوا : الفرج يأتي بعد الشدة، والآية الكريمة:
﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾
ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ماذا تعني كلمة (مخرج)إذا انقطع واحد بفـلاة فهو يحتاج إلى مخرج، أمّا إذا كان الشخصُ في مكان له سبعة أبواب مفتوحة، هل يحتاج لمخرج؟ لا، لكن متى نقول مخرج؟ عندما تكون الأبواب كلها مغلقة، والأمور مشتدّة، والطرق كلها غير سالكة، عندئذ يأتي الفرج من أعلى، مِن لدُنْ حكيم خبير، قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا .
3- من صفات المرأة الصالحة :
استنباط آخر، كان وفاءها لزوجها منقطع النظير، لذلك فالأصل بين الزوجين المودة والمحبة، فإذا طغتْ بينهما الخصومات، والمشاحنة، والبغضاء، والبيت في نكد، فهذه حالة مَرَضية ينبغي أن تعالج .
هل عندكم شك أن النبي أراد أن يتزوجها من أجل شيء دنيوي، لا والله، لكنّ امرأة جاهدت هذا الجهاد، وهاجرت إلى الحبشة، ثم هاجرت إلى المدينة، ولقيت من العنت ما لقيت، وفوق كل ذلك يموت زوجها، ويُبقِي لها أطفالاً صغاراً ليس لهم مُعيل، أليس من الشهامة أن تقدِم على الزواج من هذه المرأة؟ بلى، والدليل سيدنا الصديق، وسيدنا عمر، وجاء النبي بعد ذلك،
((الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ))
المرأة الصالحة التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها، وإذا أقسمت عليها أَبَرِّتْك، وإذا أمرتها أطاعتك، عزيزة في نفسها، ذليلة مع بعلها، ودود ولود، ترضى باليسير، ولا تكفر العشير، وفي القرآن آية تشير إلى ذلك، عن نساء أهل الجنة، وصف الله حوريات أهل الجنة بأنهن قاصرات الطرف، يعني يقصرن طرفهن على أزواجهن, فهذه المرأة التي توازن زوجها بالآخرين، هذه ليست امرأة ترضي الله عز وجل, لذلك يقول النبي الكريم:
((أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ))
إن الله لا ينسى أحداً من رحمته، فقد فرَّق بين أم سلمة وزوجها وولدها، وصبرتْ، فأعاد الله لها زوجها وولدها، وهذا الاستنباط صحيح .
4- من صفات المؤمن :
وثمّة استنباط آخر، وهو أن المؤمن يكره مجتمع الكفر،وهذه حقيقة إيمانية، كما يكره أن يلقى في النار
المؤمن مع المؤمنين كالسمك في الماء، المؤمن في المسجد كالسمك في الماء، راحته مع أخوانه المؤمنين، راحته في بيوت الله، راحته في أداء العبادات، فقد سئل الجنيد: مَن وليّ الله؟ قال: ليس الولي الذي يطير في الهواء، ولا الذي يمشي على وجه الماء، الولي كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام، وتجده حيث أمر الله، وتفقِده حيث نهى الله عنه، فلا يقرب الأماكن الموبوءة .
نحن الآن في جاهلية أخرى، قال سيدنا جعفر: كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونسيء الجوار، ونقطع الأرحام, ويأكل القوي منا الضعيف، هي جاهلية مُرَّة، القوي يأكل الضعيف, أما الآن فالأقوياء يأكلون الشعوب، وليس الضعاف فحسب، هذه جاهلية جهلاء .
قيمة المرأة الصالحة في سعادة البيت المسلم :
هنا حقيقة، هي نصيحة للشباب، يمكن أنْ تتزوج فتاة، وقد أودع الله عز وجل في نفس كل شاب حبَّ الزوجة
لكن إذا كانت الزوجة رفيقة لك في الحياة، بمعنى أنها في مستواك الثقافي ، والشرعي، والإيمان, والورع، فهذه أكثر مِن زوجة، هذه رفيقة العمر، الواحد إذا تزوج يجب أنْ يعلم زوجته، لأن هذه المتعة التي يحتاجها الزوج من زوجته تنقضي، وتصبح مع الزمن شيئاً عاديًّا, لا يترك أثراً بعيدًا في النفس، أمّا الذي يبقى هو علمها، وأخلاقها، ودينها، وورعها، ووفاؤها، وحكمتها، وتربيتها لأولادها .
مرة نصحتُ شخصًا نصيحة، قلت له: لن تسعد بزوجتك إلا إذا عرَّفتها بالله، فسعدتْ به، عندئذ تسعد بها، ثم تسعِدك، لأنها عرفت قيمتك، وعرفت قيمة الزوج، وعرفت واجبها تجاه الزوج، وعرفت حقوق الزوج، وأنت عرفت حقوقها .
فكل إنسان يهمل دين زوجته يدفع الثمن باهظًا، وكل إنسان يرعى دين زوجته، ويرعى إيمانها، ويرعى تلاوتها للقرآن وعلمها، فهو الرابح الأول، فالإنسان قبل أن يتزوج يبحث عن المرأة الصالحة ليسعَدَا معًا .